بين الأمر التنفيذي وامتيازات الأمم المتحدة.. كيف تُضعف العقوبات الأمريكية آليات المساءلة الدولية؟

بين الأمر التنفيذي وامتيازات الأمم المتحدة.. كيف تُضعف العقوبات الأمريكية آليات المساءلة الدولية؟
الأمم المتحدة

في صيف هذا العام فرضت الولايات المتحدة عقوبات موسّعة بموجب الأمر التنفيذي رقم 14203 على مسؤولين وكيانات مرتبطة بالمحكمة الجنائية الدولية، ثم امتدّت الإجراءات لتشمل مقرّرة أممية مستقلة تتولّى ملفّ حالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة (فرانشيسكا ألبانيز)، وأثارت هذه الخطوة ردود فعل أممية ومحلية حادة، وسلّطت الضوء على توتر متصاعد بين سياسة دولة قوية وامتيازات الخبراء الدوليين التي تقوم عليها منظومة حقوق الإنسان الأممية. 

تعود جذور الأزمة إلى قرار الإدارة الأمريكية اعتبار عمل بعض مؤسسات العدالة الدولية تشكل "تهديداً" لمصالحها ومصالح حلفائها، واعتبار الإجراءات القانونية التي تُتخذ أو تُسهِم فيها بعض الآليات الدولية سياسة عدائية تستلزم ردّاً بالمقاطعات والعقوبات، وبحسب ما أوردته شبكة "opiniojuris" في تقرير لها الخميس صاغت واشنطن موقفها عبر أمر تنفيذي يعطي صلاحيات لحظر التعامل المالي ومنع الدخول إلى واشنطن ضد أفراد وكيانات يُعتقد أنها تساعد محاكم أو إجراءات تحقق قد تستهدف مواطنين أمريكيين أو حلفاءً، وقد شملت الإجراءات أسماء أفراد في المحكمة الجنائية الدولية ومؤسسات فلسطينية، وصولاً إلى مقرّرة أممية

الحماية القانونية وامتيازات المقرّرين الخاصين

يستند نظام الحماية للمقرّرين الخاصين إلى اتفاقية امتيازات وحصانات الأمم المتحدة وقرارات للأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية التي أكدت أن خبراء الآليات الخاصة يتمتعون بامتيازات وحصانات تُمكّنهم من أداء مهامهم دون تضييق أو تهديد قانوني، وسبق لمحكمة العدل الدولية أن أصدرت آراءً استشارية تؤكد نطاق هذه الامتيازات للأفراد الذين يؤدون مهاماً رسمية نيابة عن الأمم المتحدة، والهدف من الحصانات هو ضمان الاستقلالية والفاعلية في أداء ولايات التحقيق والتقدير والتقرير وفق مكتب الأمم المتحدة للإعلام.

التصادم القانوني.. عقوبات أم حصانات؟

الاعتبار القانوني المحوري هنا هو أن الإجراءات العقابية الأمريكية، إن أمكن تطبيقها، تتعارض عملياً مع الالتزامات الدولية المتعلقة بامتيازات ومنافع الخبراء الأمميين، فإجراءات فرض قيود مالية أو منع سفر مقرّر أممي، إن صحت، قد تعرقل أداء المهمة الموكلة إليه، والمذكرة القانونية للأمم المتحدة أكدت مرجعية هذه الامتيازات، كما أن القاعدة العامة في القانون الدولي تحظر تعارض الإجراءات الوطنية مع الالتزامات الدولية الناشئة عن معاهدات انضمت إليها الدولة، وفي المقابل، جادلت واشنطن بأن هدفها حماية سيادتها وحلفائها من ملاحقات وصفَتها بأنها "سياسية" أو "تعسفية". 

تداعيات إنسانية ووظيفية فورية وممتدة

آثار هذه الخطوة تتعدى نزاعاً دبلوماسياً إلى أبعاد إنسانية ووظيفية، منها: أولاً، يضعف توافر معلومات الأمم المتحدة الدقيقة عن انتهاكات حقوق الإنسان عندما يخشى الشهود أو الشركاء التعاون مع مقرّرين قد يتعرّضون هم أو شركاؤهم لعقوبات، ثانياً، يخلق حجباً عن تمويل بعثات التحقيق لأن المقرّرين الخاصّين يعتمدون في كثير من الأحيان على دعم خارجي وإمكانيات لوجستية غير مباشرة، ثالثاً، يعرقل قدرة المقرّرين على تقديم تقارير إلى الجمعية العامة أو مجلس حقوق الإنسان إذا فُرضت قيود سفر أو جُمدت أصول، والنتيجة المباشرة تآكُلُ قدرة النظام الدولي على مدّ ضحايا الانتهاكات بآليات للانتصاف. 

ردود فعل أممية ودولية ومنظمات حقوقية

أدانت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان التدابير وطالبت بإلغائها، معتبرة أن إجراءات من هذا النوع تشكّل سابقة خطيرة قد تُقوّض عمل المقرّرين وآليّات الأمم المتحدة، كما أعربت مؤسسات دولية وأممية، ومحكمة الجنايات الدولية نفسها، عن استنكارها وتخوّفها من الآثار العملية في عمل العدالة الدولية. من جانب آخر، تضمنت المواقف الدولية أيضاً إشارات إلى سبل طعن قانوني داخلي، حيث قدّم قضاة أمريكيون أحكاماً أولية ضدّ تطبيق بعض أجزاء الأمر التنفيذي كما حدث في قرار محكمة فيدرالية علّقت تطبيق بنود منه قيداً دستورياً على حرية التعبير، ما يفتح ساحة القضاء الوطني لمعارضة بعض التدابير. 

الرهان الأكبر يكمن في أن تصبح العقوبات وسيلة بيد الدول لإسكات من يفضحون أو يوثّقون الانتهاكات، إذا تكرر هذا المنحى فقد تتآكل شرعية نظام الإجراءات الخاصة لدى الأمم المتحدة، وتتحول المبادرات الدولية في قضايا حقوق الإنسان إلى أهداف سياسية تُستثمر فيها الضغوط، وهذا الاحتمال يهدد كذلك القوّة الردعية للعدالة الدولية؛ لأن الضحايا والناجين يفقدون منصات فعّالة لرفع قضاياهم.

خلاصات قانونية وإجرائية مطروحة

تتيح القواعد الدولية عدداً من السبل التصحيحية التي دعت إليها جهات أممية وقانونية منها: أولاً، يمكن للأمين العام أن يتدخل رسمياً للوقوف على امتيازات المقرر الخاص وطلب التوضيح وردّ التدابير، ثانياً، تملك الأمم المتحدة خيار طلب رأي استشاري من محكمة العدل الدولية حول نطاق امتيازات المقرّرين وإلزامية تطبيقها، ثالثاً، يمكن أن تُثار قضايا أمام القضاء الوطني في الولايات المتحدة حول دستورية أو مدى قانونية تطبيق الأمر التنفيذي، وهو ما حصل جزئياً بالفعل، رابعاً، الدعوة إلى استجابة دولية من خلال مجلس حقوق الإنسان والجمعية العامة لرفض أطر معاقبة الخبراء الأمميين وضمان حماية موثوقة لهم لأداء وظائفهم وفق محكمة العدل الدولية.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية